
حين نتأمل مسار التاريخ الإنساني ونبحث عن القضايا التي تتجاوز حدود الجغرافيا لتصبح امتحانًا للأخلاق والضمير، نجد أن فلسطين تتصدر القائمة. ليست مجرد قطعة أرض متنازع عليها، وليست مجرد صراع سياسي بين طرفين، بل هي رمز لمعركة الحق ضد الباطل، الحرية ضد الاحتلال، والكرامة ضد الذل. من يقف مع فلسطين لا يقف فقط مع شعب مظلوم، بل يقف مع القيم الإنسانية التي يفترض أن توحّد البشر جميعًا. لذلك، فإن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: لماذا يجب أن تبقى فلسطين قضية كل ضمير حي؟

منذ قرون، كانت فلسطين أرضًا حاضنة للحضارات، تسكنها شعوبها الأصلية وتُمارس فيها الحياة بكل تفاصيلها الطبيعية من زراعة وتجارة وثقافة. لكن مع بدايات القرن العشرين، تدخل الاستعمار البريطاني ليضع حجر الأساس لمأساة لم تنته حتى الآن، عبر وعد بلفور المشؤوم الذي منح ما لا يملك لمن لا يستحق. ثم جاءت النكبة عام 1948، لتتحول إلى جرح مفتوح في الذاكرة الإنسانية: شعب يُقتلع من أرضه، مئات القرى تُدمّر، ملايين يُهجّرون ليعيشوا حياة اللجوء والتشريد.
ورغم مرور أكثر من سبعين عامًا، لم يستطع الاحتلال أن يمحو هذه الحقيقة البسيطة: أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض، وأن محاولات طمس الهوية وكتابة رواية بديلة فشلت في مواجهة صمود شعب متمسك بحقه التاريخي والقانوني. فلسطين ليست قضية "لاجئين يبحثون عن مأوى"، بل قضية شعب له وطن سُلب منه بالقوة والعدوان.
"الحق لا يموت ما دام وراءه مطالب" – مقولة خالدة تلخّص جوهر الصمود الفلسطيني جيلاً بعد جيل.

حين يُسلب حق الإنسان في وطنه وكرامته، تصبح المقاومة خيارًا طبيعيًا لا ترفًا. القانون الدولي ذاته يقرّ بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال بكل أشكاله. ومع ذلك، يُراد للفلسطيني أن يُقدَّم دائمًا كـ"المعتدي" إذا دافع عن نفسه، بينما يُمنح المحتل صك البراءة والحماية.
المقاومة في فلسطين ليست مجرد بندقية أو صاروخ؛ إنها قبل ذلك تمسّك بالهوية، تعليم للأبناء أن لهم وطنًا، حكاية تُروى، وزيتونة تُزرع رغم الجرافات. إنها إرادة شعب يرفض أن يستسلم أو يذوب. ولأنها كذلك، جُعلت المقاومة هدفًا لحملات شيطنة هائلة في الإعلام والسياسة، كي يُفرغ الحق من مضمونه، ويُقنع الناس أن "الضحية هي الجاني". لكن الحقيقة تظل واضحة لكل منصف: فلسطين تقاوم لأنها مظلومة، تقاوم لأنها محتلة، تقاوم لأنها ترفض أن تتحول إلى ذكرى في كتب التاريخ.
"إذا كان للظلم جيوش وسلاح، فللحق ذاكرة لا تنام" – وهذا ما يجعل المقاومة الفلسطينية جزءًا من إنسانية العالم كله.
لم تكن معاناة الفلسطينيين يومًا نتيجة الاحتلال وحده، بل أيضًا بسبب المؤامرات المستمرة لطمس قضيتهم أو تفريغها من بعدها الإنساني. منذ عقود، تُبذل جهود هائلة لتحويل فلسطين من قضية مركزية للأمة إلى "مسألة محلية" أو "نزاع داخلي" لا يستحق الاهتمام.
تأتي سياسات التطبيع كأحد أبرز أدوات هذه المؤامرة، إذ يُراد إقناع الشعوب أن بوسعها أن تنعم بالاستقرار والازدهار بينما يُترك الشعب الفلسطيني وحيدًا في مواجهة الاحتلال. كذلك تُستخدم وسائل الإعلام لتضليل الرأي العام، وتشويه صورة النضال الفلسطيني، وزرع الشكوك بين صفوف المناصرين. وفي المقابل، يجري إشغال الأمة بقضايا ثانوية، لتبدو فلسطين بعيدة أو معزولة.
لكن رغم هذه المحاولات، تبقى فلسطين البوصلة الحقيقية. من يناصرها يشعر أن صوته امتداد لأصوات ملايين الأحرار عبر العالم، وأن الوقوف معها ليس شأنًا سياسيًا فحسب، بل إعلان انتماء إلى الإنسانية ذاتها.
"فلسطين ليست أرضًا ضاعت، بل قضية حيّة تكشف كل يوم من مع الظالم ومن مع المظلوم."
فلسطين، إذن، ليست مجرد صراع حدود أو نزاع سياسي. إنها قضية حق مسلوب، قضية شعب يواجه أعتى أشكال العدوان، قضية تختصر معاني العدل والحرية في هذا العصر. وكل ضمير حي يُدرك أن السكوت عنها يعني التنازل عن قيم إنسانية أساسية: الحق في الحياة، الكرامة، الحرية.
إن دعم فلسطين ليس خيارًا يُضاف إلى قائمة القضايا، بل هو موقف أخلاقي يحدد إن كنا سنقف مع المظلوم أو مع الظالم. والواجب اليوم ليس فقط التضامن العاطفي، بل نشر الوعي، كشف التضليل، ومقاومة كل محاولات طمس الحقيقة. لأن الاحتلال مهما طال، فهو إلى زوال، ولأن ما ضاع حق وراءه مطالب.
فلسطين هي معيار إنسانيتنا… ومن يخذلها، إنما يخذل الضمير الإنساني بأسره.
Free Palastine